ردّاً على صديق قال لي :"لما لا تُهاجر"!؟إنك تطلبُ مني بيّع خمسة وثلاثين سنة من عمري هنا؛ وهي كل ما أحتكم عليه من الحياة.. رصيد محترمٌ من الأحداث والوجوه والأماكن والتفاعلات والأحاسيس المتنوعة.. إنك تطلبُ مني نسّيان كل شيء بسهولة والشروع من الصفر في مكان آخر لا يربطني به سوّى دورة اللّهث خلف قطعة الخبز، وبغض النظر عن إن كانت مُنهكة أم لا، لا ذوق له حين لا يكون مخبوزاً بأعوادِ شجرة أنبتتها تربة الوطن.. إنك تطلبُ مني أن أرمي كل ما علمتني إياه هذه الارض خلف ظهري وأهجرها كأنها لم تكن يوماً قطعة مني، مُجرد رقعة، بيت للكراء، مكان سقطت فيه دون أن يأخذ برأيي، فوجدت مشاعري تتعلّق بها بالتدريج لأن سقطتُ في هيّامها وعشقها وما عدت على فراقها قادراً أو مستحملاً.. إنك تطلبُ مني طمس ذكرياتي وهويتي ومسّحها كأنها خطا إملائي غير مرغوب فيه.. إنك تطلبُ مني أن أتنازل عن إنتمائي لمجرد أن قطعة الخبز هنا مُرة موغلة في وحل الذلّ والمهانة.. لمجرد أن سُدنة من كهنة معبد السلطان جاثمين على أنفسنا يمنعوننا من تنفس الحرية .. لأن الأرض تئن من وطأة أقدام مصّاصي دماء الوطن.. إنك تطلب مني الهرب وترك الجميع خلفي.. والدي.. اخوتي.. جيران كانت منازلهم دار أبي سفيان الآمنة وقت نقترف ما قد يسبب لنا العقاب.. هجران من تقاسمت معهم الرغيف.. ومن جمعني وإيّاهم الحلم.. ومن تقاسمت تخاطفت معهم على قطعة اللحم الوحيدة في وجبة العدس.. ومن لاقني بهم القدر ء عنوةً ء وبدأنا ننسج تفاصيل الحكاية لحظة هدوء ليل لا تسمع فيه إلا نبّاح كلاب جائعة للحرارة قبل الأكل.. إنك تطلبُ مني إعادة زرع ذاكرة جديدة.. بأماكن نظيفة.. وبوجوه صفراء تتوسطها أعين تتوزع بين اللّونين الأزرق والأخضر.. اي صحيح جميلة، لكنها جافة المشاعر.. بين أناس لا يهتمون كثيرا لحال جيرانهم لحظة فرح أو وقت قرح.. بيوميات مغايرة غير تلك التي كنت أعيشها هنا.. بتقيّد صارم لقوانين حاكمة.. بإحتفالات أعياد لا أشعر معها بالإطمئان.. بجيران سيتصلون ببوليس النجدة لحظة اشتهيت الصراخ منتصف الليل.. هنا، حيث أعيش، يمكن أن تصرخ في الرابعة صباحا ولا أحد سينتبه لك، وحتى إن انتبه سهران سيعتقدك سكران استفاقت مواجعه من نومها.. إنك تطلبّ مني أن أبيع كل ماتحصلت عليه من هذه الحياة؛ ذكريات، أصدقاء، شلة أجتمع بهم دون أن أُجبر نفسي على التقيّد ببرتكول مُعين.. تطلب البدء من جديد كأني ابن الأمس، وأنا ذاكرة حيّة ضاجة بالكثير من التفاصيل.. تفاصيل لا يمسحها إلاّ الموت.. تطلبُ مني صناعة محتوى آخر للذاكرة.. محتوىً لا وجود فيه لكائنات مقهى الفيلاج.. لسوقه.. لبساطته.. لحماره الأعرج المُسلي لأطفال لا يعلمون بوجود مدن ألعاب كبيرة .. تطلب مني المستحيل يا صديقي.. فأنا لا أُشبهك.. أنت تقيّس ولاءَك للوطن بالمال..وأنا أقيّسه بالذكريات والوفاء للترّاب..
0 تعليق
إرسال تعليق