تونفيت... سجن مفتوح على السماء
تونفيت... سجن مفتوح على السماء
لم أستغرب حينما سمعت أحد أبناء تونفيت يعتبر بلدته "سجنا
طبيعيا مفتوحا على السماء"، فهذه البلدة الصغيرة، التائهة بين
جبال الأطلس المتوسط، هي مركز إحدى جماعات "المغرب
غير
النافع"، جماعة تربض بين جبلي معسكر والعياشي، وهي جماعة
وعرة المسالك، قاسية الطبيعة، مترامية الدواوير، هشة الخدمات
الاجتماعية، ضعيفة ومهترئة البنية التحتية.
حينما حللنا بها، زوال نهاية الأسبوع الماضي، وجدناها كئيبة
بئيسة، أسطح بيوتها تنفث دخانا، رغم أن الثلوج لم تكن وصلتها
بعد، بل كانت ما تزال تطل عليها من أعلى قمم الجبال المحيطة
بها، كما لو كانت تتفرج على السكان وهم يستعدون لاستقبالها،
بتوفير ما يستطيعون إليه سبيلا من حطب وغذاء، هذا مع العلم
أن
سكان المنطقة فقراء محدودو الإمكانيات، بل إن أزيد من عشرين
أسرة ما زالت تعاني التشرد والعراء، منذ انهيار منازلها بفعل
أمطار طوفانية تهاطلت على المنطقة، خلال رمضان الماضي،
وخلفت خسائر فادحة، دون أن يكلف المسؤولون أنفسهم عناء
التدخل وتعويضهم أو التخفيف من معاناتهم.
كان الشارع "الرئيسي" لهذه البلدة، مثل أزقتها، مليئا بالحفر
والبرك والأوحال ومياه الأمطار المتساقطة، كما كان شبه خال.
استغربنا في البداية للأمر قبل أن يفيدنا أحد مرافقينا أن الأمر
يعود إلى شدة البرد، الذي يشبه هنا عدوا يطارد السكان طيلة
فصل الشتاء، ويذيقهم أقسى أنواع المعاناة، إلى درجة أن الدم
يكاد
يتجمد في أطراف الإنسان، فيفقد الإحساس بها، والتحكم فيها. كما
أن هذا العدو يرهق الناس ماديا، لأن مدته تناهز ثمانية أشهر كل
عام، ويضطرهم إلى شراء الحطب لتدفئة بيوتهم وأجسادهم،
رغم
أن أغلبهم فقراء يجدون صعوبات حقيقية في توفير كسرة خبز
حافية، فبالأحرى توفير ثمن الحطب والدواء جراء إصابة مئات
السكان، وخصوصا الأطفال منهم، بأمراض مزمنة والتهابات
رئوية حادة.
وحسب عدد ممن التقتهم "الصباح"، فإن المنطقة كلما حل بها
الثلج، الذي يتجاوز مستواه مترا، حاصرها وعزلها عن العالم،
فيجد سكانها صعوبة كبيرة في مغادرة بيوتهم، سواء للتسوق أو
لقضاء حاجياتهم، بل لنقل مرضاهم أيضا. كما تتوقف الدراسة،
وتختفي المواد الغذائية الأساسية من الدكاكين المحلية، ويقل
حطب التدفئة، ومقابل ذلك، ينتعش المضاربون الذين لا يترددون
في استغلال هذه الوضعية، للمضاربة بقنينات الغاز والسكر
والدقيق المدعم والزيت والشاي... ما يجعل الفقراء يعانون
الجوع، فلا يتناول أغلبهم سوى الخبز والشاي فطورا وغذاء
وعشاء… هذا دون أن تتدخل الجهات المسؤولة للتخفيف من
معاناتهم.
خلال زيارتنا لتونفيت، ولجنا عدة بيوت، وما لاحظناه فيها كلها،
هو أن الناس يلتحفون ملابس صوفية، ويضعون طرابيش يغطون
بها رؤوسهم، ويلتفون حول "الفورنو" طلبا لدفء يسري في
بيوت وأجساد تكاد تفارق الحياة بسبب البرد القارص. والأمر
نفسه سجلناه بالمقاهي الشعبية للبلدة، وفي السوق الأسبوعي أيضا.
ورغم أن البرد مازال في بداياته بهذه المنطقة، فإن سعر قنطار
واحد من حطب التدفئة، وصل إلى 70 درهما، وهو سعر مرتفع،
حسب السكان، إذا ما قورن بالفترة نفسها من السنوات الماضية،
والتي لم يكن يتجاوز فيها 50 درهما...
واعتبر أحد هؤلاء أن ما يقع للغابة التي تعتبر مصدرهم الوحيد
للرعي وحطب التدفئة، أمر بشع إذ هو نهب واستغلال عشوائي
لشجرة الأرز، ما يؤدي إلى استنزافها، وتقلص مساحتها، يوما
بعد
يوم، ويهددها بالانقراض في أي لحظة، بسبب استهدافها من قبل
مافيا تهريب شجر الأرز، الذي تزخر به المنطقة. وهذا الأمر،
حسب مصادرنا، يهدد الغابات القريبة من تونفيت والدواوير
المجاورة لها، ومن المتوقع أن يصل الضغط المتزايد على الغابة
في هذه المنطقة إلى ذروته خلال الأسابيع المقبلة، إذ سيزداد
الإقبال عليها للحصول على حطب التدفئة، نظرا لموجة البرد
القارص، التي تجتاح هذه المنطقة فصل كل شتاء. إضافة إلى
غياب مورد رزق قار لسكان الدواوير المحاذية لها، إذ
يضطرون
إلى قطع الأشجار وبيعها كحطب للتدفئة لتوفير لقمة العيش
لأسرهم. وأضاف بعضهم أن هذا الواقع سيضاعف من حجم
البطالة المستشرية بين الشباب، وسيحد من فرص الشغل الضئيلة
أصلا. هذا دون أن ننسى مافيا تهريب شجر الأرز، التي تنتهز
فقر السكان، وتستغلهم في تدمير شجر الأرز، وذلك، بتواطؤ مع
أصحاب الحال، وهو ما فضحه، أخيرا، توقيف شاحنات محملة
بخشب مهرب من المنطقة بأحد الأقاليم المجاورة.
وفي ما يتعلق بالواقع الصحي، اعتبرت مصادرنا أنه بئيس، إذ لا
توجد سوى طبيبة واحدة وثلاثة ممرضين يشتغلون في
مستوصف
يفتقر لأبسط التجهيزات الأساسية ووسائل العلاج. كما أن سيارة
الإسعاف الوحيدة بالجماعة متوقفة عن العمل، منذ أزيد من سنة،
بسبب تعطلها إثر حادثة سير كانت وقعت لها. ما يعرقل نقل
المرضى والمصابين إلى مكناس أو ميدلت، واستشهد مصدرنا
على قوله بوفاة مواطنة أخيرا كانت صدمتها سيارة أجرة، وتأخر
تقديم الإسعافات الأولية لها، ونقلها إلى مستشفى ميدلت.
ويوم السوق الذي يتزامن بالمنطقة ويوم الأحد، لاحظنا أن سكان
الدواوير، وبسبب عدم توفر وسائل النقل العمومية، يركبون
سيارات النقل السري أو على ظهر الشاحنات، طيلة عدة ساعات،
ولمسافات تتجاوز الثلاثين كلم، وسط الحيوانات والبضائع، على
مرأى من السلطات ورجال الدرك الذين "يتفاهمون" على كل
حال.
واعتبر بعض الشباب أن وضع المنطقة ناجم أساسا عن سياسة
تهميش وإقصاء ممنهجة اتجاه هذه المناطق، وأنها سياسة تساهم
في تفقيرها ومعاناة سكانها، وتستخف بحقهم في الحياة والعيش
الكريم، وتعري سيمفونيات التنمية والتضامن ومحاربة الفقر
ودعم العالم القروي...
وللإشارة، فإن مطالب السكان بسيطة، تتلخص في فك العزلة
عنهم بإنشاء الطرق والمسالك، والحفاظ على الموارد الطبيعية،
وإعادة النظر في الظهير المنظم لاستغلال الغابة، سيما أنها
مهددة، حسبهم، بخطر الانقراض، جراء لوبيات تنهبها أمام أعين
السلطة، وبتواطؤ معها. كما يطالبون باستكمال مد شبكتي الماء
والكهرباء، والنهوض بمستوى عيش السكان، وتوفير الدقيق
المدعم بالكميات الكافية، والبنية التحتية الصحية اللازمة لضمان
حق المواطنين في الحياة، مع محو الأمية، وتوفير التعليم الجيد
لهم، والتخفيف من الاكتظاظ، والحد من ارتفاع الهدر المدرسي،
وتشجيع السياحة الجبلية، وإدماج هذه المنطقة في مشاريع التنمية،
وتعويض المتضررين منهم عن الخسائر التي لحقت بهم إثر
فيضانات شتنبر الماضي.
مصدر
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=198155&r=0
0 تعليق
إرسال تعليق