ثقافة المقاطعة: المقاطعة هي عزوف يحمل خطابا قد يكون هدفه التفاوض وقد يكون العقاب
................. ثقافة المقاطعة: حينما يكون المستهلك سياسيا ............................
لماذا "حركة مقاطعون" ؟ ضد من؟ ومن أجل مذا؟ وكيف يحدث أن يكون فعل المقاطعة ثقافة؟ هذه اﻷسئلة يجيب عنها هذا النص.
-المقاطعة عادة أنجلوساكسونية
لم تكن ثقافة المقاطعة قط من صنائع الثقافة الفرنسية، فالفرنسيون يميلون أكثر إلى اﻹضراب والتظاهر، فهي إذن كانت عادة أنجلوساكسونية محضة، بدءا باسمها الذي يعود إلى الوكيل الاقطاعي شارلز بويوكوت (Charles.C.Boyott) الذي تمت مقاطعته من طرف الفلاحين الإرلانديين سنة 1880. قبل ذلك ب 90 عاما أي سنة 1790 قاطع الانجليز منتوجات السكر الآتية من مستعمرات اﻷنتيل احتجاجا على استعباد بريطانيا للبشر. سنة 1920 أعلن المهاتما غاندي العصيان المدني ضد بريطانيا في الهند. سنة 1955 قاطع السود اﻷمريكان حافلات النقل الحضري بمونتمغري ضدا على القوانين التميزية والعنصرية في حق السود.
في سنة 1982 اعترفت المحكمة العليا بالولايات المتحدة للمقاطعين بحقهم في البويكوت من أجل التغيير الاجتماعي، وكان ذلك بسبب المضايقات التي كانت تتعرض لها النقابات من طرف الجمعية اﻷمريكية لمناهضة المقاطعة التي تأسست سنة 1902. لقد كانت المقاطعة السلوك المفضل لدى النقابات اﻷمريكية، فكانت تسهر على إعداد وتحيين لوائح الشركات التي تمت مقاطعتها، كما أنها تعمل على إخراج تقارير لنتائج تلك المقاطعات. ولا تزال المواقع باللغة الانجليزية تعج بلوائح المنتوجات الموضوعة في اللائحة السوداء. يفسر هذا النزوع نحو ثقافة المقاطعة عادة بثلاثة أسباب، كل يدافع عن سبب :
1-إقتصادي: يعود إلى نسبة الغنى، فالدول الغنية هي اﻷكثر مزاولة لفعل المقاطعة (سويسرا،السويد،بريطانيا، امريكا.،.).
2-ثقافي: يعود إلى الثقافة السياسية للأفراد المقاطعين، بحيث وجد باحثين أن أغلب المقاطعين هم مناضلين أو نشطين سياسيين*.
3 ديني: يستند هذا التفسير عل أطروحة ماكس فيبر. فالمقاطعة تميز الدول البروتستانتية، وهذه تشجع على قيم الفردانية وتعلي من مسؤولية الفرد داخل المجتمع، في حين الدول المعتادة على الاحتجاج والانتفاض دول كاثوليكية تعلي من شأن مسؤولية الدولة والمؤسسات.
-المقاطعة بين التفاوض والمعاقبة
المقاطعة هي عزوف يحمل خطابا قد يكون هدفه التفاوض وقد يكون العقاب. ففي الثلاتينيات من القرن الماضي قاطع النازيون مخازن اليهود في ألمانيا، فكانت المقاطعة هنا ذات مغزى أيديولوجي، بالتالي عقابي. سنة 2003 قاطع اﻷمركيون المنتوجات الفرنسية بسبب معارضتها للسياسات الخارجية اﻷمريكية ضد العراق، هنا المقاطعة ذات مغزى سياسي، بالتالي عقابي. إذن فالمقاطعة قد تكون فعلا إقتصاديا أو سياسيا. فإن كانت من باب الاقتصاد فهي تفاوضية، أما إن كانت من باب السياسة فهي عقابية.
-الاقتصاد المغربي
المغرب ليس بلد صناعي، وليس بدلا "ما بعد صناعي"، بالتالي تسقط كل اﻷطروحات القائمة على النمطين(علا غرار التصنيفات المعتمدة على: ريمون أرون، دانييل بيل، ألان تورين، ألريخ بيك..). الاقتصاد المغربي يقوم على منظومتين، اﻷولى متعلقة بالقطاعات الثلات: الفلاحي (17% من PIB)، والصناعي (31% من PIB)، فقطاع الخدمات(51% منPIB). نلاحظ من خلال هذه النسب هيمنة قطاع الخدمات على القطاع الصناعي الهزيل، خصوصا جانب الصناعة التحويلية التي تعتبر أساس التصنيع. فوق ذلك كله يعرف المغرب عجزا في الميزان التجاري بحيث يستورد مرتين أكثر مما يصدر. وتعتمد ثروته الخارجية على الطلب الخارجي، وتحويلات المهاجرين، والسياحة، والاستثمار الخارجي. وتشكل هذه الثروة عائدات بمعدل 5 إلى 6 % في السنوات اﻷخيرة. أما إذا كانت هناك أزمة مالية عالمية فهذه النسبة تتناقص تدريجيا.
المنظومة الثانية التي يقوم عليها اﻹقتصاد المغربي هي الريع وما أدراك ما الريع.
يدر الريع أرباحا ويفتح امتيازات سهلة على المؤسسات أكثر بكثير من المجهود الذي ستبدله في النشاطات الانتاجية. فهو يقوم على توزيع الامتيازات والرخص واحتكار اﻷسواق من طرف فئات قليلة، ومن ثم فالريع هو زواج موثق بين اﻹقتصاد والسياسة. فهذه تفتح اﻷبواب الحصرية للاقتصاد من أجل الربح عن طريق الامتياز لا المنافسة. في هذه الحالة تتركز الثروة في يد القلة، فتسهر هذه على صد اﻷبواب أمام الوافدين الجدد، أي قتل تنافسية السوق. فينقسم المجتمع شيئا فشيئا إلى طبقتين غنية تماما وفقيرة تماما مع إجهاض تام للطبقة الوسطى.
من الناحية السياسية لا يمكن للاقتصاد الريع أن يعتمل إلا في حالة إلتباس العلاقة بين السلط الثلاث (التشريعية، التنفيذية،القضائية)، وغياب عقلنة النفقات العمومية، ومن الناحية الاقتصادية لا ينشط إلا في غياب سوق حرة من حيث المنافسة.
-المقاطعة نشاط إقتصادي أم سياسي؟
السؤال الذي يطرح اﻵن: من يقاطع المغاربة، منتوجات إقتصادية أم هيئات سياسية؟
لقد تولت الحكومة المغربية نفسها اﻹجابة عن السؤال حيت أخذت على عاتقها الدخول في حوار ثنائي نشأ في البداية بين المستهلك ومؤسسات إقتصادية. لم يكن ذلك من باب الصدفة، فما دام الاقتصاد المغربي يختلط بأحبال السياسي فكل فعل إقتصادي هو فعل سياسي بالضرورة. وكل مقاطعة إقتصادية هي مقاطعة سياسية. وإلا كانت الحكومة لتلجم أفواهها وتدع الحوار يسري بشكل طبيعي بين المستهلك والمنتج، كما في الدول حيث علاقات السوق منفصلة عن علاقات الاقتصاد (على اﻷقل من حيث المنافسة). فحيث سوق المنافسة الحرة فقط يعلو شأن المستهلك، لأنه صاحب خيار فرداني، وغير ملزم بشيء للدولة إلا من ناحية العقد الاجتماعي/المدني الذي يقوم مسبقا بينهما. أما الذي يجبر المستهلك على اقتناء السلعة فهو قدرة المنتج على اقناع المستهلك (من خلال الجودة، معقولية اﻷسعار، إضفاء طابع الحاجة على المنتوجات التكميلية، خلق العلامات التجارية وربطها بهويات انتماء ...).
- المقاطعة المغربية كحركة
ينبغي تحليل المقاطعة الحالية من حيث أربع عناصر: الرسالة، الجمهور، الاعلام، التنظيم.
من ناحية الرسالة، فتظهر حركة مقاطعون إلتباسا بسبب التناقضات في اﻷهداف. فمشكل المقاطعة اﻷساس هو غلاء اﻷسعار، لكنها في نفس الوقت فعل سياسي يهدف إلى الاحتجاج ضد التدبير العمومي، وأحيانا ضد الاحتكار ومعاقبة بعض الرموز (شعار "مقاطعون إلى اﻷبد")، وأحيانا ضد رمز الاستعمار ( شركة سنطرال الفرنسية)..إلخ. لكن الذي يضمن تماسك حركة المقاطعة هو التعيين اﻷولي لمواد بعينها، ثم الاجماع الذي تم على ذلك. لكن من الطبيعي أن تلتبس رسالة المقاطعة فذلك إن هو إلا رد فعل على التباس العلاقات بين السياسي بالاقتصادي كما قلنا سابقا.
من ناحية الجمهور، لاقت الحركة إقبالا وفيرا من طرف مختلف الفاعلين، حتى أنها تعتبر أنجح حملة مقاطعة في تاريخ المغرب لمنتوجات إستهلاكية من زاوية الشعبية.
من ناحية اﻹعلام، استغلت الحركة وسائل التواصل الاجتماعي ونجحت في اﻷخير في تسهيل تداول المعلومة والخبر، كما نجحت في فرض موضوعها على الاعلام الصحفي بما فيه المتلفز والالكتروني (كانت جريدة "هسبريس" مثلا تتلافى نقل أخبار المقاطعة في أسابيعها اﻷولى، في الوقت الذي كانت جريدة "كود" الالكترونية تسخر وتنتقد المقاطعين، حتى أنها وصفتهم في أزيد من مقال ب"الشعب الذي يحن إلى زمن ماوكلي").
من ناحية التنظيم، فالمقاطعة تعتمد فقط على توجهات الصفحات الكبرى في توجيه آراءها، وتقاسم المنشورات الالكترونية، ومن ثم فالتلاحم لا يعتمد على أي تنظيم مباشر كما هو معتاد في الحركات الاجتماعية العادية. ما يميزها إذن هو كونها تأسست على نوع من "العقل الجمعي"، تراكم بفعل الاحتقان من الوضع الراهن، وأيضا من خلال موجات التأثير الجماعي على السلوعات الفردية. لكن من السمات السلبية للعقل الجمعي انه مفتوح على موجات اﻵراء العابرة بما فيها اﻹشاعة والتزوير والفبركة، بل وحتى البروباغاندا لعلامات تجارية مهينة**، الشيء الذي يجعل الحركة مهددة بالسقوط في براثن التشويش والانحراف والتناقض. لكن من السمات الايجابية لحركة مقاطعون [المنبثقة من العقل الجمعي] أنها تكون مجهولة المصدر بالتالي فعملية التفاوض لا تتم إلا من خلال الاستجابة الفعلية على محتوى الرسالة بدون وساطات (حزبية أو نقابية أو قيادية) من طرف المعنيين.
- خلاصة، ماهية المقاطعة
في الحقيقة، تحمل هذه الحركة في طياتها مضامين أبعد ما تكون عن مجرد مطالبة بحق التوزيع، بل تضمر مناشدات بالمشاركة السياسية والمدنية، وتطالب بحقوق ثقافية تتجلى في صراع الهوية، هوية "النحن" "حنا ولاد الشعب". هذا "النحن" لم يتشكل دينيا ولا طبقيا ولا سياسيا، بل عن طريق علاقاته مع السلطة، تلك السلطة التي يراها الشعب هوية مضادة تحتكر الاقتصاد والسياسية.
***هشام بوبا
------------------------ هوامش ---------------------------
*بخصوص الاتجاهات المفسرة لثقافة المقاطعة يمكن العودة إلى:
I.Nyström, P.Vendramin, "Le boycott",coll.Contester, Presses de Sciences Po.2015
** بدل ال boycott يحل ال buycott أي الدعوة إلى استهلاك علامات تجارية بعينها.
Hicham Bouba إسم الكاتب
0 تعليق
إرسال تعليق