استطاع رويشة وأصدقائه بآلتين الوترة والبنديران يخترق احاسيسي ومشاعري العالم........ ربما لن تجود الأرض بمثله ابدا
الوتر آلة موسيقية مليئة بالأسرار, زاخرة بالنغمات مشحونة بالفكر, وهي آلة مستعصية على كل من لا يجيد فن مداعبتها.وفي نفس الوقت ذاته,لينة سهلة مطواعة من يد من يملك الأصابع الذهبية التي تحسن مداعبتها وإستجلاء أسرارها الباهرة.والنقر على أوثارها يجعلها تتكلم بأفصح وأرق وأعذب لغة لا تكاد تلمس الأذن,حتى تتسلل لأعماق الوجدان وسويداء القلب.والأوثار بين أنامل من يحسن استنطاقها تقطر شهدا وتنبض بالسحر الحلال وتقول ما لا تطاله البلاغة,أو يمتد إليه البديع والمنيع.محاورات الآلات الموسيقية تعتمد أساسا على الموهبة, ثم الإلمام بالموروت العام لآلة الوتر التي تبدو سهلة.وفي المتناول وهي آلة جد معقدة في الواقع ويحتاج العازف إليها والذي ينشد فيها التفوق والتفرد إلى المدد الطويلة, والتدريب يملك ناصيتها أو بعضا من ناصيتها.و أنا أعرف من العازفين المهرة والمرموقين من يتدرب على العزف ثمانية ساعات يوميا وأحيانا أكثر, لأن فضاء آلة الوتر فسيح لدرجة تستعصي على الحرفي امتدادها وبعد مداها.وآلة الوتر مرتع للجمال ومهبط لوحي النغمات ومرتجلاته التقاسيم .أرحب واحة لمناجاة الوتر...واستنطاق النبرات والتماهي مع النغمات والمقامات وسير أغوارها والتباري في استعراض المهارات من لدن العازفين الكبار. وآلة الوتر آلة مركبة جلدية معقدة,ولكن بقدر ما يكتسيها من غموض وإبهام بقدر ما تختزل من عناصر الإفصاح والوضوح والتواصل مع إسماع الناس وكثر من العازفين المهرة والذين بلغوا شأوا بعيدا في مناجاة أوثار الوتر واستكناه أسراره وتفوقوا في جعل لغته مفهومة ومقبولة ومهضومة,وبالتالي مؤنسة وممتعة. وقفوا في النهاية على حقيقة لا يشوبها أي التباس وهي:"إن الوتر آلة سحرية وساحرة ,وكلما تعمقت في معرفتها إزددت ذهلا بأسرارها وأصبحت تتوق للمزيد من المعرفة فيها. والفنان محمد رويشة من أشهر المحاورين لآلة الوتر ويتربع على مكانة متميزة مرموقة حتى عند بعض العازفين على آلة الوتر.ولقد استطاع أتجديد بكل من يتصل بهذه الآلة من حيث إعادة النظر في بعض مقوماتها الهيكلية ,وكانت له اجتهادات في هذا المجال اقترحها على الصناع من الحرفيين ممن تخصصوا في صناعة آلة الوتر. مما يتيح للعازف مجالات أرحب وفضاءات أوسع مع المحافظة على الثوابت والإجتهاد فيها على الخلق والإبداع ونظرته العميقة والثاقبة للآلة الوتر. حضن الأم للنغم ,ومرتع خصب للخلق والإبداع جعلته يرى ما لا يراه الآخرون ويسمع بالتصور ما لم يسمع بعد ,وما لم يصافح أي أذن ,ومحمد رويشة الفنان المبدع المجتهد بقدر ما جد واجتهد في العزف على آلة الوتر,والإلمام بفضائه الواسع بقدر ما تجول في منعطفات أنغامه وعالمه السحري الجميل الممتع وما يتيحه للفنان من أسباب الاتصال والتواصل ونقل الخطاب البليغ الذي يحاور العقل والروح والوجدان وتحرك الكيان برمته .ثم إن محمد رويشة سابق لزمنه في فهم آلة الوتر فهما معاصرا ومواكبا ومتطلعا للآفاق المستقبلية البعيدة المدى, نعم فهم آلة الوتر فهما دقيقا وطامحا الشيء الذي أتاح له البراعة في مداعبة أوثاره والتفوق. وهو بالإضافة إلى ذلك, يمتاز عزفه بالعذوبة والطلاوة, انه متيم بآلة الوتر.عندما يعزف يضع عليها خده في مناجاة العاشق الولهان, عندما ننظر إلى وجه محمد رويشة تتجلى في ملامحه الموسيقى بكل معطياتها العمومية وأبعادها الخصوصية .أرى شخصيا في ملامحه الأنغام والإيقاعات بكل ما تختزله في مجالات الهضم ...والفهم...والاستيعاب والتتبع والتأمل والحلم في بلوغ ما بلغه فيما بعد من تمكن وإدراك. الموسيقى دم يجري في عروق محمد رويشة لأنه مسكون بها, مفتون بعالمها وأنغامها ومقاماتها وعلى سعة معرفتي بجل العازفين لآلة الوتر, ما رأيت في حياتي عاشقا يحتضن آلة الوتر بشغف وعشق .وأعتقد من هذا العشق يتستمد تلك الحلاوة والانسياب الذين تميزت بهما معزوفاته الرائعة الفذة, إنها الرقة ,العذوبة والجمال في عزفه المتفرد على آلة الوتر, سحر الأطلس لا يقاوم بقدرة عصية على الإمساك , يبحر بك محمد رويشة في لجج المقام وسواحله ,حيث المطلق متربعا على عرش الوجود البهي, حيث النغم منسابا كجدول سماوي انشغاله المحموم بآلة الوتر وهوسه بهاد فعه منذ نعومة أظافره إلى التعلق بها فمنذ أن كان في سن الثالثة عشرة من عمره نسج علاقة دافئة معها, تكوينه العصامي لم يمنعه من التربع على الهرم الفني كعلامة بارزة من علامات موسيقانا وكان اكتشاف الجمهور له بدأ مع أواخر الستينات ومطلع السبعينات.ومن أعماله الخالدة مثل:أغنية أليام, واش المربوط كيلموه الناس,الوردة,وعلاش,هرست الحب.ولا يمكن للمرء منا أن يتذوق فعلا معزوفات محمد رويشة إذا هو أنصت للصدى المغناطيسي للصمت المنتعش من الوتر,قال بول كلي: "إن الفن لا ينسخ المرئي وإنما يجعل الكائنات مرئية". وأنا اعتقد أننا إذا نحن طبقنا هذه القولة على مضمار الموسيقي فإننا سنجد أن الموسيقى لا تنسخ المسموع وإنما تجعل الصمت مسموعا فالصمت الذهبي لوتر محمد رويشة شاهد مقنع على ذلك ويستحق أيما استحقاق أن يلقب بفريد الأطلس,إن موهبة محمد رويشة تجعل الموسيقى تكشف عن طبيعتها الحسية المتعددة ,ذلك أنها تساعدنا على الإنصات إليها بأعيننا والنظر إليها بأذاننا وإدراكها من خلال مسمعنا."فوتره"يفتن الأذن و يغميها ويهز أوردة الفؤاد ويدخل السكينة على النفس .وكتب يهودي"منوحين"بأن بتهوفن قد أصيب بالصمم كي يتمكن من السماع أفضل. فالموسيقى الرائعة تساعد الحواس على تبادل مواقعها أو التمازج, حيث ينبعث سمو المرئي والمسموع في الآن نفسه ,لهذا يتطلب الإنصات لمحمد رويشة تركيزا يكون حسيا روحيا في الآن نفسه ,وذلك قصد التمتع بالرقة والعذوبة التي تحتويها ارتجاجات أوتار الوتر وتوتر الموجات الصوتية التي تنبعث منها. إن حاسية السمع مركزية ,فعلم الأجنة يعلمنا بأنها الحاسة الأولى التي تنمو لدى الجنين قبل البصر, فالله سميع بصير. من ثم تساعدنا عبقرية الموسيقيين ليس فقط على تقدير روعة الأصوات والتناغمات بل تساهم أيضا في تربية الحواس. فوتر محمد رويشة محا لأمية السمع فمن العسير أن يظل المرء خارج شعرية سلم أنغامه وذكاء مضرابه ورشاقة أنامله والحميمية العاشقة لآلة تجمعه بوتره,هذه الآلة العريقة والأسطورية والربانية والفتانة. محمد رويشة تربطه بآلته الوترية علاقة حميمية, حيث يداعبها وبلاطفة ويلامسه ويدغدغه استعدادا للمقام التالي, ويتميز هذا المقام بهيمنة اللغة الموسيقية والمهارة التقنية الهادفين إلى بلوغ تملك كامل مكتمل للآلة والمقطع المعزوف .وفي المقام الموالي يبدو محمد رويشة في عزفه قد تحرر من كل واجب إزاء "الوتر"وبلغ مرتبة الثقة الكبرى بطريقة عزفه لينكب بفرحة عارمة على نفسه, فيتولد لدينا الإحساس بأنه سخر قدراته للآلة كي تعزف هذه الأخيرة في انطلاقة حرة ,ومن علاقة مباشرة ما تحسه إزاء سيدها محمد رويشة. فهو يتمتع بذاكرة عجيبة, ولكن هذه الذاكرة تتمتع بقدرة خاصة على أن تعيد صياغة الأشياء والأفكار والتجارب على طريقتها...كان في مخ محمد رويشة مصنع خاص"لتوهيب"الأفكار والجمل الموسيقية, بحيث تحمل بصماتها رغم أنها جاءته من مصادر كثيرة. ومن خلال هذا كله كان محمد رويشة يحاول أن يضيف كل يوم إلى عقله وفكره شيئا جديدا, ولهذا كان حريصا على أن يجمع حوله العقول, ولم يكن ذلك غريبا, فقد وجد نفسه وهو لم يزل شابا صغيرا يجلس مع الغازي محمد الملقب بعروب, الويسكي, المرحوم بوزكري, المرحوم علي ودا.و الأستاذ نباوى صاحب القطعة المشهورة"احفيخ مايريخ ادشخ ازين" والسيد محمد ابر باش ,هذا الرجل فضله كبير على محمد رويشة فهو الذي اقتنى له آلة الوتر من مدينة مراكش وذلك سنة 1975 بمبلغ قدره 80 درهما آنذاك, وكانت هاته الآلة تحتوي على أربعة لوالب, واللوالب هي قطع عود مثقوبة تمرر عليها الأوتار وبواسطتها تسوى الأوتار.وذلك الوقت كان محمد رويشة يعزف على ثلاثة أوتار, فتساءل ما هذا اللولب الرابع الزائد..؟وهنا أينعت عبقريته وأعطت ثمارها فأضاف الوتر الرابع حتى تصبح آلته كاملة. فهذه الإضافة بمثابة الروح, فالوتر الرابع قام مقام النفس في الجسد, وبالفعل فالوتر الرابع يقابل الوترين الثاني والثالث في الجواب (l’octave) ,فأحدث محمد رويشة في الأطلس المتوسط ثورة, فقد جاء بما لم تعهده الأسماع صحبة رفيقه الذي كان بمثابة شفرة يفتح بها محمد رويشة, إنه محمد أوطلحة الذي لازمه لمدة طويلة وبحق تعتبر أوج فترة عطاء محمد رويشة صحبة رفيقه هذا. ولهذا اجتمع الفن والخبرة والذكاء في شخصية محمد رويشة, انه فنان حتى النخاع ويجري وراء الجديد ويطارده ويسعى للمعرفة ويحاول دائما أن يبهر العقول والقلوب والمشاعر, رغم اعتكافه في البيت ما يسميها "الخلوة". ولكنه على اتصال بالعالم كله, ويحاول أن يعرف كل شيء عن الموسيقى العالمية في الغناء, في الأدب, في السياسة.لم ينفصل يوما واحدا عن الحياة, ولهذا كان دائم الحيوية والنشاط ويؤمن بالحياة الكريمة للفن والفنان, بمعنى أنه كان يعتقد أن الفنان لابد أن يعيش حياة تتوفر فيها كل إمكانيات الراحة والاكتفاء حتى يبدع ويتألق. ولهذا كان يقول أن الفنون العظيمة نشأت في ظل حضارات عظيمة وأشخاص عظام وأن أمراء أوربا هم الذين احتضنوا "بيتهوفن و موزار وشوبان وغيرهم" وأن الفقر يقتل المواهب والجوع لا يعطي أبدا فنا عظيما.ومما لا شك فيه أن محمد رويشة يستفيد بحياته فنا فأبدع وحاول أن يبرهن على العطاء الصادق. ومع هذا كله كان ذكاء محمد رويشة الإنسان بفطرته, ولا شك أن هذه الجوانب جميعا كانت وراء محمد رويشة الفنان والإنسان المبدع. فلحظة الإبداع عند محمد رويشة هي التي يشعر فيها بأنه يحب, وأنه عاشق ولهان ولا يستطيع أن يفارق حبيبته ولو لحظة واحدة. هذا الإحساس يأتيه عندما تفاجئه "خاطرة لحن" يعتذر على الفور ويقوم مسرعا إلى بيته "الخلوة",وكأنه ذاهب إلى ميعاد مع حبيبته التي لا يمكن الحياة بدونها. ويعود مسرعا وكأنه في خوف من أن تمل معشقته الانتظار وتذهب. ويدخل فورا إلى خلوته"البيت"ويقفل باب الغرفة وكأنه يخاف أن يراه أحد فيفضح أمره. ثم يأخذ آلته الوترية والمسجل أمامه. وكأن الخاطرة تجسد في شكل فتاة جميلة ينظر إلى عينيها وشفتيها وشعرها وقوامها ويظل في هذه المتعة, متعة اللقاء, شاكرا الرب الذي أنعم عليه بهذه الحبيبة الفتانة الجميلة التي يسميها "الخاطرة الموسيقية".
0 تعليق
إرسال تعليق